فصل: ذكر القبض على ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر القبض على ابنَيْ ياقوت:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض الراضي بالله على محمّد والمظفَّر ابنَيْ ياقوت.
وكان سبب ذلك أنّ الوزير أبا عليّ بن مُقلة كان قد قلق لتحكّم محمّد بن ياقوت في المملكة بأسرها، وأنّه هو ليس له حكم في شيء، فسعى به الراضي، وأدام السعاية، فبلغ ما أراده.
فلّما كان خامس جمادى الأولى ركب جميع القوّاد إلى دار الخليفة على عادتهم، وحضر الوزير، وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد أعمالاً، وحضر محمّد بن ياقوت للحجبة، ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطيُّ، فخرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فاستدعوه إلى الخليفة، فدخل مبادراً، فعدلوا به إلى حجرة هناك، فحبسوه فيها، ثم استدعوا القراريطيَّ فدخل فعدلوا به إلى حجرة أُخرى، ثمّ استدعوا المظفَّر بن ياقوت من بيته، وكان مخموراً، فحضر، فحبسوه أيضاً.
وأنفذ الوزير أبو عليّ بن مُقلة إلى دار محمّد يحفظها من النهب، وكان ياقوت حينئذ مقيماً بواسط، فلمّا بلغه القبض على ابَنيه انحدر يطلب فارس ليحارب ابن بُوَيه، وكتب إلى الراضي يستعطفه، ويسأله إنفاذ ابنَيْه ليساعداه على حروبه، فاستبدّ ابن مقلة بالأمر.

.ذكر حال البريديّ:

وفيها قوي أمر عبدالله البريديَّ، وعظم شأنه.
وسبب ذلك أنّه كان ضامناً أعمال الأهواز، فلمّا استولى عليها عسكر مرداويج وانهزم ياقوت، كما ذكرنا، عاد البريديُّ إلى البصرة، وصار يتصرّف في أسافل أعمال الأهواز، مضافاً إلى كتابة ياقوت، وسار إلى ياقوت فأقام معه بواسط.
فلمّا قبض على ابنَيْ ياقوت كتب ابن مُقلة إلى ابن البريديّ يأمره أن يسكّن ياقوتاً، ويعرّفه أنّ الجند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولدَيْه، فقُبضا تسكيناً للجند، وأنّهما يسيران إلى أبيهما عن قريب، وأنّ الرأي أن يسير هو لفتح فارس، فسار ياقوت من واسط على طريق السُّوس، وسار البريديُّ على طريق الماء إلى الأهواز، وكان إلى أخويه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجُندَيسَابور، وادّعيا أنّ دَخْل البلاد لسنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج، وأنّ دَخْل سنة ثلاث وعشرين لا يحصل منه شيء لأنّ نوّاب مرداويج ظلموا الناس، فلم يبق لهم ما يزرعونه.
وكان الأمر بضدّ ذلك في السنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مُقلة، فأنفذ نائباً له ليحقّق الحال، فواطأ ابنَي البريديّ، وكتب يصدّقهم، فحصل لهم بذلك مال عظيم، وقويت حالهم، وكان مبلغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار.
وأشار ابن البريديّ على ياقوت بالمسير إلى أرّجان لفتح فارس، وقام هو بجباية الأموال من البلاد، فحصل منها ما أراد.
فلمّا سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بُويه بباب أرّجان، فانهزم أصحاب ياقوت، وبقي إلى آخرهم، ثم انهزم وسار ابن بُويه خلفه إلى رَامَهُرْمُز، وسار ياقوت إلى عسكر مُكرَم، وأقام ابن بويه برَامَهُرْمُز إلى أن وقع الصلح بينهما.

.ذكر فتنة الحنابلة ببغداد:

وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو، فأخبرهم، وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.
فركب بدر الخرشَنيُّ، وهو صاحب الشُّرطة، عاشر جمادى الآخرة، ونادى في جانبَيْ بغداد، في أصحاب أبي محمّد البربهاريّ الحنابلة، ألاّ يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم ولا يصلّي منهم إمام إلاّ إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشاءَين، فلم يفد فيهم، وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد، وكانوا إذا مرّ بهم شافعيُّ المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم، حتّى يكاد يموت.
فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلَيْن والنعلَيْن المُذهّبَين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون، علوّاً كبيراً، ثم طعنكم على خيار الأئمّة، ونسبتكم شيعة آل محمّد، صلى الله عليه وسلم، إلى الكفر والضلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمّة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوامّ ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، فلعن الله شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه.
وأمير المؤمنين يقسم بالله قسماً جهداً إليه يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنّكم ضرباً وتشريداً، وقتلاً وتبديداً، وليستعملنّ السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالّكم.

.ذكر قتل أبي العلاء بن حمدان:

وفيها قتل ناصرُ الدولة أبو محمّد الحسن بن عبدالله بن حَمدان عمّه أبا العلاء بن حمدان.
وسبب ذلك أنّ أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة سرّاً، وكان بها ناصر الدولة ابن أخيه أميراً، فسار عن بغداد في خمسين رجلاً، وأظهر أنّه متوجّه ليطلب مال الخليفة من ابن أخيه، فلمّا وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه إلى تلقّيه، وقصد مخالفة طريقه، فوصل أبو العلاء، ودخل دار ابن أخيه، وسأل عنه فقيل: إنّه خرج إلى لقائك، فقعد ينتظره، فلمّا علم ناصر الدولة بمقامه في الدار أنفذ جماعة من غلمانه، فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه.

.ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة:

لّما قتل ناصر الدولة عمّه أبا العلاء واتّصل خبره بالراضي عظم ذلك عليه وأنكره، وأمر ابن مُقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها في العسكر، في شعبان، فلمّا قارها رحل عنها ناصر الدولة بن حَمدان، ودخل الزَّوَزَان، وتبعه الوزير إلى جبل التِّنّين، ثم عاد عنه وأقام بالموصل يجبي مالها.
ولما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير، وكان ينوب عنه في الوزارة ببغداد، فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه، فكتب إليه يقول إنّ الأمور بالحضرة قد اختلّت، وإن تأخّر لم يأمن حدوث ما يبطل به أمرهم، فانزعج الوزير لذلك، واستعمل على الموصل عليَّ بن خلف بن طباب وماكرد الديلميَّ، وهو من الساجيّة، وانحدر إلى بغداد منتصف شوّال.
فلمّا فارق الموصل عاد إليها ناصر الدولة بن حمدان فاقتتل هو وماكرد الديلميُّ، فانهزم ابن حمدان، ثم عاد وجمع عسكراً آخر، فالتقوا على نصيبين في ذي الحجّة، فانهزم ماكرد إلى الرَّقّة، وانحدر منها إلى بغداد، وانحدر أيضاً ابن طبّاب، واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، وأن يضمن البلاد، فأُجيب إلى ذلك واستقرّت البلاد عليه.

.ذكر فتح جنوة وغيرها:

في هذه السنة سيّر القائم العلويُّ جيشاً من إفريقية في البحر إلى ناحية افرنج، ففتحوا مدينة جَنوة ومرّوا بسَردَانية فأوقعوا بأهلها، وأحرقوا مراكب كثيرة، ومرّوا بقَرقِيسيا فأحرقوا مَراكبها وعادوا سالمين.

.ذكر القرامطة:

في هذه السنة خرج الناس إلى الحجّ، فلمّا بلغوا القادسية اعترضهم أبو طاهر القُرمُطيُّ ثاني عشر ذي القعدة، فلم يعرفوه، فقاتله أصحاب الخليفة، وأعانهم الحجّاج، ثم التجأوا إلى القادسية، فخرج جماعة من العلويّين بالكوفة إلى أبي طاهر، فسألوه أن يكفّ عن الحجّاج، فكفّ عنه من وشرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد، فرجعوا، ولم يحجّ بهذه السنة من العراق أحد، وسار أبو طاهر إلى الكوفة فأقام بها عدّة أيّام ورحل عنها.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة، في المحرّم، قلّد الراضي بالله ولدَيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتَي المشرق والمغرب ممّا بيده، وكتب بذلك إلى البلاد.
وفيها، في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة، وهي الليلة التي أوقع القُرمُطيُّ بالحجّاج، انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً جدّاً لم يُعهد مثله.
وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت، في الحبس، بنفث الدم، فأحضر القاضي والشهود، وعُرض عليهم، فلم يروا به أثر ضرب ولا خنق، وجذبوا شعره فلم يكن مسموماً، فسُلّم إلى أهله، وأخذوا ماله وأملاكه ومعامليه ووكلاءه وكلّ من يخالطه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد، ومات من أهلها خلق كثير من الجوع، فعجز الناس عن دفنهم، فكانوا يجمعون الغرباء والفقراء في دار إلى أن يتهيّأ لهم تكفينهم ودفنهم.
وفيها جهّز عماد الدولة بن بويه أخاه ركن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل، وسيّر معه العساكر بعد عوده لّما قُتل مرداويج، فسار إلى أصبهان، فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدّة من بلاد الجبل نوّاب وشمكير، وأقبل وشمكير وجهّز العساكر نحوه، وبقي هو ووشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي أصبهان، وهَمَذان، وقُمّ، وقاجَان، وكرَج، والرَّيّ، وكنكور، وقَزوين وغيرها.
وفيها، في آخر جمادى الآخرة، شغب الجند ببغداد، وقصدوا دار الوزير أبي عليّ بن مقلة وابنه، وزاد شغبهم، فمنعهم أصحاب ابن مقلة، فاحتال الجند ونقبوا دار الوزير من ظهرها، ودخلوها، وملكوها وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربيّ، فلمّا سمع الساجيّة بذلك ركبوا إلى دار الوزير، ورفقوا بالجند فردّوهم، وعاد الوزير وابنه إلى منازلهما.
واتّهم الوزير بإثارة هذه الفتنة بعض أصحاب ابن ياقوت، فأمر فنودي أن لا يقيم أحد منهم بمدينة السلام، ثم عاود الجند الشغب حادي عشر ذي الحجّة، ونقبوا دار الوزير عدّة نقوب، فقاتلهم غلمانه ومنعوهم، فركب صاحب الشُّرطة، وحفظ السجون حتّى لا تُفتح، ثم سكنوا من الشغب.
وفي هذه السنة أُطلق المظفَّر بن ياقوت من حبس الراضي بالله بشفاعة الوزير ابن مقلة، وحلف للوزير أنّه يواليه ولا ينحرف عنه، ولا يسعى له ولا لولده بمكروه، فلم يفِ له ولا لولده ووافق الحجريّة عليه، فجرى في حقّه ما يكره.
وكان المظفَّر حقد على الوزير حين قُتل أخوه لأنّه اتّهمه أنّه سمّه.
وفيها أرسل ابن مقلة رسولاً إلى محمّد بن رائق بواسط، وكان قد قطع الحمل عن الخليفة، فطالبه بارتفاع البلاد واسط والبصرة وما بينهما، فأحسن إلى الرُّسل وردّهم برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة مغالطة، وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضي بالله وحده، مضمونها أنّه إن استدعي إلى الحضرة وفُوّضت إليه الأمور وتدبير الدولة قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند، فلمّا سمع الخليفة الرسالة لم يُعد إليه جوابها.
وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس الهذليُّ من ولد عتبة بن مسعود بالكوفة، وهو من نَيسابور، وإبراهيم بن محمّد بن عرفة المعروف بنفطويه النحويّ، وله مصنّفات، وهو من ولد المهلَّب بن أبي صُفرة. ثم دخلت:

.سنة أربع وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر القبض على ابن مقلة ووزارة عبد الرحمن بن عيسى:

لّما عاد الرُّسل من عند ابن رائق بغير مال رأى الوزير أن يسيّر ابنه، فتجهّز، وأظهر أنّه يريد الأهواز، فلمّا كان منتصف جمادى الأولى حضر الوزر دار الراضي لينفذ رسولاً إلى ابن رائق يُعرّفه عزمه على قصد الأهواز لئلاّ يستوحش لحركته فيحتاط، فلمّا دخل الدار قبض عليه المظفَّر بن ياقوت والحجريّة، وكان المظفَّر قد أُطلق من محبسه على ما نذكره.
ووجهوا إلى الراضي يعرّفونه ذلك، فاستحسن فعلهم، واختفى أبو الحسين بن أبي عليّ بن مقلة وسائر أولاده وحُرَمه وأصحابه، وطلب الحجريّة والساجيّة من الراضي أن يستوزر وزيراً، فردّ الأختيار إليهم، فأشاروا بوزارة عليّ بن عسى، فأحضره الراضي للوزارة، فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره، وسلّم إليه ابن مقلة فصادره وصرف بدراً الخَرشنيَّ عن الشُّرطة، ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه، فاستعفى من الوزارة.

.ذكر القبض على عبد الرحمن ووزارة أبي جعفر الكَرخيّ:

لّما ظهر عجز عبد الرحمن للراضي، ووقوف الأمور، قبض عليه وعلى أخيه عليّ بن عيسى، فصادره على مائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بسبعين ألف دينار.

.ذكر قتل ياقوت:

وفي هذه السنة قُتل ياقوت بعسكر مُكَرم. وكان سبب قتله ثقته بأبي عبدالله البريديّ فخانه، وقابل إحسانه بالإساءة على ما نذكره.
وقد ذكرنا أنّ أبا عبدالله ارتسم بكتابة ياقوت مع ضمان الأهواز، فلمّا كتب إليه وثق به وعوّل على ما يقوله، وكان إذا قيل له شيء في أمره وخُوّف من شرّه يقول: أنّ أبا عبدالله ليس كما تظنّون، لأنّه لا يحدّث نفسه بالإمرة، وقود العساكر، وإنّما غايته الكتابة. فاغترّ بهذا منه.
وكان، رحمه الله، سليم القلب، حسن الاعتقاد، فلهذا لم يخرج عن طاعة الخليفة حين قبض على ولدَيْه بل دام على الوفاء.
فأمّا حاله مع البريديّ، فإنّه لّما عاد مهزوماً من عماد الدولة بن بويه إلى عسكر مُكرَم كتب إليه أبو عبدالله أن يقيم بعسكر مُكرَم ليستريح، ويقع التدبير بعد ذلك، وكان بالأهواز، وهو يكره الاجتماع معه في بلد واحد، فسمع ياقوت قوله وأقام، فأرسل إليه أخاه أبا يوسف البريديَّ يتوجّع له ويهنّيه بالسلامة، وقرّر القاعدة على أن يحمل له أخوه من مال الأهواز خمسين ألف دينار، واحتجّ بأنّ عنده من الجند خلقاً كثيراً منهم البربر، والشفيعيّة، والنازوكيّة، والبليقيّة، والهارونيّة. كان ابن مقلة قد ميّز هذه الأصناف من عسكر بغداد وسيّرهم إلى الأهواز ليخفّ عليه مؤونتهم، فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء متى رأوا المال يخرج عنهم إليك شغبوا، ويحتاج أبو عبدالله إلى مفارقة الأهواز، ثم يصير أمرهم إلى أنّهم يقصدونك ولا نعلم كيف يكون الحال؛ ثم قال له: إنّ رجالك مع سوء أثرهم يقنعون بالقليل.
فصدّقه ياقوت فيما قال، وأخذ ذلك المال وفرّقه، وبقي عدّة شهور لم يصله منه شيء، إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين فضاق الرزق على أصحاب ياقوت، واستغاثوا، وذكروا ما فيه أصحاب البريديّ بالأهواز من السعة، وما هم فيه من الضيق.
وكان قد اتّصل بياقوت طاهر الجيليُّ، وهو من كبار أصحاب ابن بويه، في ثمانمائة رجل، وهو من أرباب المراتب العالية، وممّن يسمو إلى معالي الأمور.
وسبب اتّصاله به خوفه من ابن بويه أن يقبض عليه خوفاً منه، فلمّا رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربيّ تُستَر، وأراد أن يتغلّب على ماه البصرة، وكان معه أبو جعفر الصَّيمريُّ، وهو كاتبه، فسمع به عماد الدولة بن بويه، فكبسه، فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه، وأسر الصَّيمريَّ، فأطلقه الخيّاط وزير عماد الدولة بن بويه، فمضى إلى كَرمان، واتّصل بالأمير معزّ الدولة أبي الحسن بن بويه وكان ذلك سبب أقباله.
فلمّا سار طاهر من عند ياقوت ضعفت نفسه، واستطال عليه أصحابه، فخافهم، وراسل البريديَّ، وعرّفه ما هو فيه، وأعلمه أنّ معوّله على ما يدبّره به، فأنفذ إليه البريديُّ يقول: إنّ عسكرك قد فسدوا، وفيهم مَن ينبغي أن يخرج، والرأي أن يُنفذهم إليه ليستصلحهم، فإنّه له أشغال تمنعه أن يحضر عنده، ولبو حضر عنده، والجند مجتمعون، لم يتمكّن منه الانتصاف منهم لأنّهم يظاهر بعضهم بعضاً، وإذا حضروا عنده بالأهواز متفرّقين فعل بهم ما أراد ولا يمكنهم خلافه.
ففعل ذلك ياقوت، وأنفذ أصحابه إليه، فاختار منهم مَن أراد لنفسه، وردّ مَن لا خير فيه إلى ياقوت، بعد أن كسرهم وأسقط من أرزاقهم، فقيل ذلك لياقوت، فأشير عليه بمعاجلة البريديّ قبل أن يستفحل أمره، فلم يلتفت وقال: إنّما جعلتُهم عنده عدّة لي.
وأحسن البريديُّ إلى من عنده من الجند، فقال أصحاب ياقوت له في ذلك، وطلوا أرزاقهم التي قرّرها البريديُّ، فكتب إليه فلم ينفذ شيئاً، فراجعه فلم ينفذ شيئاً، فسار ياقوت إليه جريدة لئلاّ يستوحش منه، فلمّا بلغه ذلك خرج إلى لقائه، وقبّل يده وقدمه، وأنزله داره، وقام بين يديه، وقدّم بنفسه الطعام ليأكل.
وكان قد وضع الجند على إثارة الفتنة، فحضروا الباب وشغبوا واستغاثوا، فسأل ياقوت عن الخبر، فقيل له: إن الجند بالأبواب قد شغبوا، ويقولون قد اصطلح ياقوت والبريديُّ، ولا بدّ لنا من قتل ياقوت؛ فقال له البريديُّ: قد ترى ما دُفعنا إليه، فانجُ بنفسك وإلاّ قُتلنا جميعاً! فخرج من باب آخر خائفاً يترقّب، ولم يفاتح البريديَّ بكلمة واحدة، وعاد إلى عسكر مُكرَم؛ فكتب إليه البريديُّ يقول له: إنّ العسكر الذين شغبوا قد اجتهدتُ في إصلاحهم وعجزتُ عن ذلك، ولست آمنهم أن يقصدوك، وبين عسكر مُكرَم والأهواز ثمانية فراسخ، والرأي أن تتأخّر إلى تُستَر لتبعد عنهم، وهي حصينة؛ وكتب له على عامل تُستَر بخمسين ألف دينار.
فسار ياقوت إليها، وكان له خادم اسمه مؤنس، فقال: أيّها الأمير أن البريديَّ يحزُّ مفاصلنا ويفعل بنا ما ترى، وأنت مُغْتَرّ به، وهو الذي وضع الجند بالأهواز حتّى فعلوا ذلك، وقد شرع في إبعادك بعد أن أخذ وجوه أصحابك، وقد أطلق لك ما لا يقو بأوَد أصحابك الذين عندك، وما أعطاك ذلك أيضاً إلاّ حتّى تتبلّغ به، وتضيق الأرزاق علينا، ويفنى ما لنا من دابّة وعُدّة فننصرف عنك على أقبح حالٍ، فحينئذ يبلغ منك ما يريده، فاحفظ نفسك منه، ولا تأمنه، ولم يثق للجند الحجريّة ببغداد شيخ غيرك، وقد كاتبوك، فسِرْ إليهم، فكلّ من ببغداد يسلّم إليك الرئاسة، فإن فعلتَ، وإلاّ فسرْ بنا إلى الأهواز لنطرد البريديَّ عنها وإن كان أكثر منّا، فأنت أمير وهو كاتب.
فقال: لا تقُل في أبي عبدالله هذا، فلو كان لي أخ ما زاد على محبّته.
ثم إنّ ياقوتاً ظهر منه ما يدلّ على ضعفه وعجزه عن البريديّ، فضعفت نفوس أصحابه، وصار كلّ ليلة يمضي منهم طائفة إلى البريديّ، فإذا قيل ذلك لياقوت يقول: إلى كاتبي يمضون؛ فلم يزل كذلك حتّى بقي ثمانمائة رجل.
ثم إنّ الراضي قبض على المظفَّر بن ياقوت في جمادى الأولى، وسجنه أسبوعاً ثم أطلقه وسيّره إلى أبيه، فلمّا اجتمع به بتُستَر أشار عليه بالمسير إلى بغداد، فإن دخلها فقد حصل له ما يريد، وإلاّ سار إلى الموصل وديار ربيعة فاستولى عليها، فلم يسمع منه، ففارقه ولده إلى البريديّ، فأكرمه وجعل مؤكَّلين يحفظونه.
ثم إنّ البريديَّ خاف مَن عنده من أصحاب ياقوت أن يعاودوا الميل والعصبية له، وينادوا بشعاره، فيهلك، فأرسل إلى ياقوت يقول له: إن كتاب الخليفة ورد عليّ يأمرني أن لا أتركك تقيم بهذه البلاد، وما يمكنني مخالفة السلطان، وقد أمرني أن أخيّرك إمّا أن تمضي إلى حضرته في خمسة عشر غلاماً، وإمّا إلى بلاد الجبل ليولّيك بعض الأعمال، فإن خرجتَ طائعاً، وإلاّ أخرجتُك قهراً.
فلمّا وصلت الرسالة إلى ياقوت تحيّر في أمره، واستشار مؤنساً غلامه، فقال له: قد نهيتُك عن البريديّ وما سمعتَ، وما بقي للرأي وجه؛ فكتب ياقوت يستمهله شهراً ليتأهّب، وعلم حينئذٍ خبث البريديّ حيث لا ينفعه علمه.
فلمّا وصل كتاب ياقوت يطلب المهلمة أجابه أنّه لا سبيل إلى المهلة، وسيّر العساكر من الأهواز إليه، فأرسل ياقوت الجواسيس ليأتوه بالأخبار، فظفر البريديُّ بجاسوس، فأعطاه مالاً على أن يعود إلى ياقوت ويخبره أن البريديَّ وأصحابه قد وافوا عسكر مُكرَم، ونزلوا في الدور متفرّقين مطمئنّين، فمضى الجاسوس وأخبر ياقوتاً بذلك، فأحضر مؤنساً وقال: قد ظفرنا بعدوّنا وكافر نعمتنا؛ وأخبره بما قال الجاسوس، وقال: نسير من تُستَر العتمة، ونصبح عسكر مُكرَم وهو غارّون، فنكبسهم في الدور، فإن وقع البريديُّ فالله مشكور، وإن هرب اتّبعناه.
فقال مؤنس: ما أحسن هذا أن صحّ وأن كان الجاسوس صادقاً! فقال ياقوت: إنّه يحبّني ويتولاّني وهو صادق؛ فسار ياقوت فوصل إلى عسكر مُكَرم طلوع الشمس، فلم يرَ للعسكر أثراً، فعبر البلد إلى نهر جارود، وخيّم هناك، وبقي يومه ولا يرى لعسكر البريديّ أثراً، فقال له مؤنس: إنّ الجاسوس كذبنا، وأنت تسمع كلام الكاذبين، وإنّني خائف عليك.
فلمّا كان بعد العصر أقبلت عساكر البريديّ، فنزلوا على فرسخ من ياقوت، وحجز بينهم الليل، وأصبحوا الغد، فكانت بينهم مناوشة، واتّعدوا للحرب الغد.
وكان البريديُّ قد سيّر عسكراً من طريق أخرى ليصيروا وراء ياقوت من حيث لا يشعر، فيكون كميناً يظهر عند القتال فهم ينتظرونه، فلمّا كان الموعد باكروا القتال، فاقتتلوا من بُكرة إلى الظهر، وكان عسكر البريديّ قد أشرف على الهزيمة مع كثرتهم، وكان مقدّمهم أبا جعفر الحمّال. فلمّا جاء الظُّهر ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت، فردّ إليهم مؤنساً في ثلاثمائة رجل، فقاتلهم وهم في ثلاثة آلاف رجل، فعاد مؤنس منهزماً، فحينئذ انهزم أصحاب ياقوت، وكانوا، سوى الثلاثمائة، خمسمائة، فلمّا رأى ياقوت ذلك نزل عن دابّته، وألقى سلاحه، وجلس بقميص إلى جانب جدار رِباط. ولو دخل الرباط واستتر فيه لخفي أمره، وكان أدركه الليل، فربّما سلم، ولكنّ الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فلمّا جلس مع الحائط غطى وجهه بكمّه، ومدّ يده كأنّه يتصدّق ويستحيي أن يكشف وجهه، فمرّ به قوم من البربر من أصحاب البريديّ فأنكروه، فأمروه بكشف وجهه فامتنع، فنخسه أحدهم بمزارق معه، فكشف وجهه وقال: أنا ياقوت، فما تريدون منّي؟ احملوني إلى البريديّ؛ فاجتمعوا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، وكتب أبو جعفر الحمّال كتاباً إلى البريديّ على جناح طائر يستأذنه في حمل رأسه إلى العسكر، فأعاد الجواب بأعادة الرأس إلى الجثة وتكفينه ودفنه، وأُس غلامه مؤنس وغيره من قوّاده فقُتلوا، وأرسل البريديّ إلى تُستَر فحمل ما فيها لياقوت من جوارٍ ومال وغير ذلك، فلم يظهر لياقوت غير اثني عشر ألف دينار، فحُمل الجميع إليه، وقبض على المظفَّر بن ياقوت فبقي في حبس البريديّ مدّة ثم نفذه إلى بغداد.
وتجبّر البريديُّ بعد قتل ياقوت وعصى، وقد أطلنا في ذكر هذه الحادثة وأنّما ذكرناها على طولها لما فيها من الأسباب المحرِّضة على الاحتياط والاحتراز، فإنّها من أوّلها إلى آخرها فيها تجارب وأمور يكثر وقوع مثلها.

.ذكر عزل أبي جعفر ووزارة سليمان بن الحسن:

لّما تولّى الوزير أبو جعفر الكرخيُّ، على ما تقدّم، رأى قلّة الأموال وانقطاع الموادّ، فازداد عجزاً إلى عجزه، وضاق عليه الأمر.
وما زالت الإضافة تزيد، وطمع مَن بين يديه من المعاملين فيما عنده من الأموال، وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البريديُّ حمل الأهواز وأعمالها، وكان ابن بويه قد تغلّب على فارس، فتحيّر أبو جعفر، وكثرت المطالبات عليه، ونقصت هيبته، واستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فلمّا استتر استوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلّة المال.

.ذكر استيلاء ابن رائق على أمر العراق وتفرّق البلاد:

لّما رأى الراضي وقوف الحال عنده ألجأته الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق، وهو بواسط، يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد، فلمّا أتاه الرسول بذلك فرح به، وشرع يتجهّز للمسير إلى بغداد، فأنفذ إليه الراضي الساجيّة، وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد والدواوين، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه الخِلَع.
وانحدر إليه أصحاب الدواوين والكتّاب والحجّاب، وتأخّر الحجريّة عن الانحدار، فلمّا استقرّ الذين انحدروا إلى واسط قبض ابن رائق على الساجيّة سابع ذي الحجّة، ونهب رحلهم ومالهم ودوابّهم، وأظهر أنّه إنّما فعل ذلك لتتوفّر أرزاقهم على الحجريّة، فاستوحش الحجريّة من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغداً لنا؛ وخيّموا بدار الخليفة، فأُصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وأتاه الحجريّة يسلّمون عليه، فأمرهم بقلع خيامهم، فقلعوها وعادوا إلى منازلهم.
وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعها، وكذلك كلّ من تولّى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال، وتغلب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم.
وأمّا باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق؛ وخوزستان في يد البريديّ؛ وفارس في يد عماد الدولة بن بويه؛ وكرمان في يد أبي عليّ محمّد بن إلياس؛ والرَّيّ وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكر أخي مرداوجي يتنازعان عليها؛ والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حَمدان؛ ومصر والشام في يد محمّد بن طُغْج؛ والمغرب وإفريقية في يد أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهديّ العلويّ، وهو الثاني منهم، ويلقّب بأمير المؤمنين؛ والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمّد الملقّب بالناصر الأموي؛ وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد السامانيّ؛ وطبرستان وجُرجان في يد الديلم؛ والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القُرمُطيّ.